جرعة الحزن، التي نتلقاها من الصحف كل صباح، أصبحت مضاعفة.
لا أقصد الأسباب التي في بالك، ولكن لديَّ أسباب أخرى إضافية، صحيح أن ما تبثه من أخبار عن السياسة وفضائح أهلها تصدم المرء وتصيبه بالاكتئاب، إلا أن اللغة العربية التي تكتب بها المواد المنشورة تضاعف لديَّ الشعور بالصدمة والاكتئاب،
ولأسباب متعلقة بالإثارة والمنافسة بين الصحف في الأغلب فإن أخبار الفضائح السياسية وغير السياسية تحظى بقدر كبير من الاهتمام، لكن الفضيحة اللغوية مسكوت عنها، ولا تكاد تستوقف أحداً باستثناء المعنيين بها،
ولأنني أنتمي إلى جيل في المهنة يعتبر الأخطاء اللغوية من الكبائر، فقد أصبحت أعاني كل يوم من ذلك الحزن المضاعف. كلما وقعت عيناي في صفحاتها على آثار المذبحة اللغوية وبصماتها.
وما يحير المرء ويكاد يوصله إلى درجة اليأس والإحباط أن يتسع نطاق المذبحة، وتتعدد صورها حيناً بعد حين. من دون أن تبدو في الأفق أي مبادرة لوقف استمرارها،
لقد كتبت من قبل عن احتقار اللغة العربية ونشر الإعلانات بالإنجليزية في صحف عربية تخاطب القارئ العربي. وحذرت، في مرة أخرى سابقة، من زحف العامية المبتذلة على العامية المحترمة ذات الجذور الممتدة إلى الفصحى، أو المنسوبة إليها.
ومن بين ما قلته إن هذه الممارسات لا تشكل عدواناً وإهانة للغة الفصحى فحسب، لكن الإهانة فيها تصيب القارئ المتلقي، كما أنها تنال من قيمة وعزة أي مجتمع ينتمي إلى الأمة العربية. ناهيك عن بلد كمصر اعتبر نفسه يوماً ما رائداً وقائداً لتلك الأمة.
للمحنة وجه آخر يتجاوز أزمة الاستعلاء بالإنجليزية، والابتذال والسوقية في العامية الجديدة، يتمثل في مذبحة الفصحى ذاتها، التي تتم بأيدي الذين يستخدمونها، ويخطئون في أبسط مبادئ الإملاء وقواعد النحو. وهي الفضائح، التي شاعت حتى في بعض عناوين الصحف المصرية المحترمة، الأمر الذي ينبئ عن مستوى مخجل من الأمية اللغوية غير مسبوق فى تاريخ الصحافة المصرية.
على زماننا في (الأهرام) كان يجلس على رأس سكرتيري التحرير مدير التحرير هو الأستاذ نجيب كنعان رحمه الله مهمته الأساسية هي التدقيق اللغوي والتأكد من أن كل همزة في مكانها، وكل حرف جر أدى ما عليه. وكان الخطأ اللغوي الذي يقع فيه الواحد منا بمنزلة ذنب يستنكر منه، وكان لدينا قسم للتصحيح من الجيل الذي تمكن من الفصحى وتفانى في حراستها. وإذا ما وقعت الواقعة وحدث خطأ لغوي أو إملائي في أي سطر منشور، فإنها تعد كارثة يتم التعامل معها بمنتهى الصرامة والحزم.
ذلك كله اختلف في الأهرام وفي غيرها من الصحف، بل إن احترام اللغة والاعتزاز بها تراجع أيضاً في أوساط المتعلمين، لأسباب عدة، تتراوح بين تأثير الهزيمة السياسية والحضارية، وانعكاسها السلبي على الاعتزاز بالهوية والذات، وبين تدهور مستوى التعليم العربي، وعلو شأن التعليم الأجنبي.
عدد صحيفة «الشروق» الصادر في 5 يوليو الجاري جسد الحالة، التي نتحدث عنها. فقد نشرت عنواناً على أربعة أعمدة بالصفحة الأولى يقول:
أزمة القضاة والمحامون في طريق مسدود. والصحيح أنها «المحامين»، لأن الكلمة معطوفة على القضاة.
وتحت العنوان، صورة كبيرة لحشد المحامين وقفوا تحت لافتة كبيرة كتبت عليها العبارة التالية:
محاموا الإسكندرية يعلنون تضامنهم مع محاموا الغربية،
وفيها ثلاثة أخطاء، فمن الناحية الإملائية لا تضاف الألف إلى جمع المحامين،
ومن الناحية النحوية فكلمة «مع» حرف جر، كان يتعين كسر المجرور فيها، وصحتها كالتالي:
محامو الإسكندرية يعلنون تضامنهم مع محامي الغربية
لدي نماذج أخرى أفدح لمذبحة اللغة في بقية الصحف المصرية، وللأمية اللغوية المتفشية بين خريجي الجامعات والمهنيين، بل وبين بعض أساتذة الجامعة، الذين تفزعني الأخطاء النحوية والإملائية التي أصادفها فيما أتلقاه من رسائل منهم، لكني آثرت أن انتقد ما نشرته «الشروق» من باب ممارسة النقد الذاتي، وحتى لا يُساء فهم كلامي عن الآخرين.
إزاء عموم البلوى لا مفر من التذكير بالحقيقة التالية:
لكى تحترم لغتك لابد أن تكون محترماً أولاً. وهذا سبب إضافي للاكتئاب!