نونية أبي الفتح البستي:
ومن المنظومات الرائعة في الأخلاق: القصيدة النونية العظيمة، التي نظمها الشاعر بعنوان: الحِكَم، وهو أبو الفتح البستي رحمه الله تعالى، يقول في مطلعها :
زيادة المرء في دنـياه نقــصان
وربـحه غير محض الخير خسرانُ
وكل وجدان حـظ لا ثبــات له
فإن مـعناه فــي التحــقيق فقدانُ
يا عامراً لخراب الدهر مجتــهداً
بالله هل لخــراب الــعمر عمرانُ
ويا حريصاً على الأمـوال تجمعها
أنســيت أن ســرور المال أحزانُ
زع الفؤاد عن الـدنيا وزينــتها
فصــفوها كــدرٌ والوصل هجرانُ
وأرع سمعك أمثــالاً أفصــلها
كمــا يفــصل ياقــوت ومرجانُ
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبــهم
فطــالما اســتعبد الإنسان إحسانُ
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمـته
أتطلب الربــح فيمــا فيه خسرانُ
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنــت بالنفــس لا بالجسم إنسانُ
وإن أسـاء مســيٌ فليكــن لك
في عـروض زلتــه صفحٌ وغفرانُ
وكن على الدهر معـواناً لــذي
أمــل يرجو نداك فإن الحـر معوانُ
من يتقِ الله يحمد فـي عواقبــه
ويكــفه شـر من عزوا ومن هانوا
من كان للخير مــناعاً فليــس
لــه علـى الحقيـقة إخوان وأخدانُ
من جاد بالمـال مــالَ النــاسُ
قاطــبةً إلــيه والمال للإنسان فتانُ
من سالم الناس يسلم من غوائلـهم
وعــاش وهــو قرير العين جذلانُ
من عاشـر النـاس لاقـى منـهم
نصــباً لأن سـوسهم بغي وعدوانُ
ومن يفـتش عــن الإخــوان
يَقْلَهـم فجل إخوان هذا العصر خوانُ
من يزرع الشر يحــصد فــي
عــواقبه ندامةً ولحصد الزرع إبانُ
من استـنام إلـى الأشـرار نـام
وفـي قميصـه منـهم صلٌ وثعبـانُ
كن ريـق البــشر إن الحــر
همــته صحيفةٌ وعليها البشر عنوانُ
ورافق الرفق في كـل الأمــور
فلــم ينـدم رفيـق ولم يذممه إنسانُ
ولا يغرنـك حـظ جـره خـرقٌ
فالخــرق هــدم ورفق المرء بنيانُ
أحسن إذا كان إمكـان ومقــدرةٌ
فلــن يــدوم على الإحسان إمكانُ
فالروض يزدان بالأنوار فاغمــة
والحــر بالعــدل والإحسان يزدانُ
صن حـر وجــهك لا تهــتك
غــلالته فكل حر لحر الوجه صوانُ
فإن لقيـت عــدواً فالــقه أبداً
والـوجــه بالبشر والإشراق غضانُ
لا تودع السر وشـاءً يبــوح به
فما رعــى غنمـاً في الدّوِّ سرحانُ
لا تحسب الناس طبـعاً واحــداً
فلهــم غرائز لسـت تحصيهن ألوانُ
لا تخدشــن بمطــل الوجــه
عارفــةٍ فالـبر يخدشه مطل وليانُ
لا تستشــر غير نــدبٍ حازمٍ
يقــظ قد استوى فيه إسرارٌ وإعلانُ
فللتدابيــر فرسـان إذا ركضـوا
فيــها أبــروا كما للحرب فرسانُ
وللأمــور مواقيــت مقــدرةٌ
وكــل أمــرٍ لـه حـد ومـيزانُ
فلا تكن عجلاً في الأمر تطلبــه
فليــس يحــمد قبل النضج بحرانُ
كفى من العيش ما قد سـد مــن
عــوزٍ ففيه للحر إن حقـقت غنيانُ
وذو القناعة راضٍ مــن معيشته
وصـاحب الحرص إن أثرى فغضبانُ
إذا جفاك خلـيلٌ كنــت تألــفه
فاطــلب ســواه فكل الناس إخوانُ
وإن نبت بك أوطــان نشــأت
بــها فارحــل فكل بلاد الله أوطانُ
كل الذنوب فــإن الله يغفــرها
إن شــيع المــرء إخلاص وإيمانُ
وكل كسر فإن الــدِّين يجبــره
ومــا لكســر قنـاة الدين جبرانُ
خذها سوائـر أمثــالٍ مــهذبةٍ
فيــها لمــن يبـتغي التبيان تبيانُ
ما ضر حسانها والطبــع صائغها
إن لـم يصـغها قريـع الشعر حسَّانُ