يوم أحد في كنيسة
عودت نفسي خلال زيارتي لمدينة صغيرة في ولاية وسكونسن الأميركية أن أمشي صباح كل يوم لأكثر من ساعة وأقل من ساعتين يومياً. أخرج من الفندق بمحاذاة الشارع الرئيسي للمدينة قاطعاً إياه هارباً من كآبته إلى المنتزه المجاور للبحيرة التي يقع عليها جزء من هذه المدينة التي كان لها تاريخ في تجارة وتصنيع الأخشاب في القرن التاسع عشر. كنت أتمعن بالأشجار الشامخة التي اكتسبت أوراقها لوناً أخضر داكناً من تعرضها لأشهر من صيف دافئ ونهارات طويلة وشمس مشرقة. وفي طريقي نحو البحيرة الذي أخذت فيه المباني تصغر حجماً كلما ابتعدت عن الشارع الرئيسي، شاهدت أفراداً ومجموعات من رجال ونساء وأطفال يدخلون إلى مبنى ضخم مقارنة بما حوله، وقد عرفت بعد ان اقتربت منه، أنه مبنى الكنيسة الكاثوليكية في المدينة، وذكرني توجه هؤلاء الناس بأن هذا اليوم كان يوم الأحد.
دفعني فضولي إلى أن أنضم إلى هذا الجمع وأدخل الكنيسة، وتذكرت لحظتها انه مع أني عشت في الولايات المتحدة طالباً لعدة سنوات لم أدخل أبداً الكنيسة لحضور صلاة. كنت قد دخلت كنيسة لحضور زواج، والمشاركة في احتفالات الطلبة العرب عندما كانت الكنيسة تتبرع بإحدى قاعاتها لتكون مكاناً لهذه الاحتفالات، كما ترددت على كنيسة أيام كنت طالباً، عندما تطوعت لتدريس اللغة العربية لأبناء الجالية العربية، وكان الفصل عبارة عن غرفة تبرعت بها الكنيسة لأن تستخدم لهذا الغرض لمدة ساعة من كل أسبوع لمدة ثلاثة اشهر. لذا كانت لدي الرغبة أن أدخل الكنيسة وأشبع فضولي بحضور صلاة كاملة.
كان النور داخلها مزيجاً من الإضاءة الكهربائية ونور الشمس الذي تلون بألوان الزجاج على الشبابيك التي زينت بصور للمسيح وأمه مريم وبعض القديسين، وقبل أن أتوجه نحو أحد الكراسي المستطيلة المتوازية، استلمت كتيباً وزع على الحضور، عرفت بعد ان تمعنت فيه أنه كان يتضمن الأناشيد الدينية مع نوتتها الموسيقية التي سيشارك الحضور في أدائها. بدأ القس بالصلاة التي انتهت خلال دقائق قليلة ثم قاد رجل وامرأة الحضور في ترديد أناشيد دينية لازمها عزفموسيقى كان مصدره بيانو واورغن. وبعد نهاية كل نشيد كان القس يتحدث قليلا ثم يستأنف الاناشيد. وفي احد الفصول بين نشيد وآخر، القى رجل خطبة لمدة عشر دقائق، وبدا انه احد الحضور ولم يكن قسا او احد العاملين في الكنيسة. وركزت خطبته على كون ان سلوك الانسان الاخلاقي وما يقدمه الانسان لرفع المعاناة عن انسان آخر هو جوهر الدين. وبعد ان انتهت الصلاة، تجمع بعض الحضور لشرب الشاي والمرطبات قبل الخروج، فالتقيت بهذا الرجل الذي القى الخطبة فامتدحت مضمون خطبته وعرفت نفسي باني مسلم من الكويت. فشكرني وتمنى لي التوفيق.
استأنفت بعدها طريقي نحو البحرية حاملا معي هذا الكتيب الذي استلمته عند دخولي الكنيسة. وعندما وصلت في قراءة ما تضمنه من اناشيد، والتي كان من ضمنها نشيد اطلق عليه «صلاة للقديس فرانسيس»، والذي تكون من رباعية يتكرر فيها شطر البيت الاول، والذي كان مناجاة لله بان يجعل قارئ قناة لتحقيق السلام. تقول الرباعية:
اجعلني يا الهي قناة لتحقيق السلام
وعندما تكون هناك كراهية، مكني من زرع المحبة
واغفر لي عندما اكون سببا في جرح الآخرين
وعندما يكون هناك شك، ليكن هناك ايمان
اجعلني يا الهي قناة لتحقيق السلام
وعندما يكون هناك يأس من الحياة، ليكن هناك امل
وعندما يكون هناك ظلام، ليكن هناك نور
وعندما يكون هناك حزن، حوله بهجة وفرح
اجعلني يا الهي قناة لتحقيق السلام
وهبني ما ابحث عنه
وازرع محبتي في قلوب الناس، لكي احبهم من دواخل روحي
وعندما اموت، ابعثني مع الطيبين
يلاحظ القارئ أن الصلاة والخطبة والأناشيد الدينية في الكنيسة يتفق مضمونها مع ما تهدف إليه الأديان جميعا، خاصة الوحدانية منها، والاناشيد ما هي إلا مناجاة وتضرع وطلب المغفرة من الخالق، شبيهة بالمناجاة التي نجدها في أشعار المتصوفة من المسلمين. فالآخرون ان كانوا أبناء طوائف مسيحية أخرى، أو ديانات أخرى لم يكونوا موضوعا لا من مضمون ديني ولا من مضمون اجتماعي. لكن المرء لا يستطيع إلا أن يتساءل: هل كانت الصلاة الكاثوليكية دائما بالمضمون نفسه ومن دون تهجم أو دعوات لقتال الآخرين؟ بالطبع لا، فالكنيسة الكاثوليكية هي نفسها التي دعت إلى شن الحروب الصليبية لمدة مائتي سنة خلال الفترة 1095 - 1291. والكاثوليك هم أنفسهم قتلوا ونكلوا بطوائف مسيحية في شرق أوروبا في طريقهم إلى بيت المقدس قبل أن يقاتلوا المسلمين. والكاثوليك هم الذين شكلوا محاكم التفتيش في اسبانيا التي اضطهدت اليهود ومن بقي من المسلمين. ويشهد العالم أن عصر المسلمين في اسبانيا كان اكثر تسامحا مع الديانات الأخرى من اسبانيا الكاثوليكية. كما أن أوروبا شهدت حروبا بين الكاثوليك والبروتستانت خلال القرنين السابع والثامن عشر، قضت على ما يقارب من نصف سكان أوروبا آنذاك.
لذلك، لا بد ان كان الخطاب الكاثوليكي خلال صلوات الاحد مختلفا عن هذا الخطاب الذي اقتصر على مناجاة وتضرع إلى رب العزة لتنقية النفس الإنسانية والتقرب إليه أكثر، والذي استمع إليه كاتب هذه السطور في هذه الكنيسة في مدينة أميركية صغيرة في صيف 2009. لذا، يستطيع القارئ أن يتخيل انه كان يتضمن دعوات لقتال المسلمين «المحتلين» للأماكن المسيحية المقدسة، ودعوات للمصلين لاكتشاف اليهود «المندسين» وارسالهم الى محاكم التفتيش، وفي فترات أخرى، لا بد أن يكون الخطاب قد تضمن دعوات لقتال «الكفار» من المسيحيين البروتستانت الذين حرفوا العقيدة المسيحية. فماذا حدث للكاثوليكية والمسيحية بشكل عام ليتحول الخطاب إلى الشكل والمضمون الذي استقر عليه الآن؟ هل تغيرت تعاليم المسيح أو الكتاب المقدس الذي كانوا يقرأونه؟ لا شك أن تعاليم المسيح لم تتغير وما يقرأوه المقاتل المتوجه إلى بيت المقدس أيام الحروب الصليبية هو نفسه ما ردده ذلك القس في المدينة الاميركية الصغيرة. إذا، ما الذي تحول لكي تتقبل الكنيسة أن يدخلها المسلمون، وأن توفر لك مساحة داخلها لتتوجه فيها نحو الكعبة لاداء الصلاة. لا شك أن الذي تغير هو البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تشكل وعي الناس وتطلعاتهم بما في ذلك رجال الدين. فلم يكن هناك خيار لرجال الدين إلا ان يتغيروا ليستمر تأثيرهم على الرعية. هذه البيئة الثقافية والاجتماعية لم يصنعها قرار سياسي ولا اكتشاف حقول نفطية، وانما صنعها تراكم خبرات ومعاناة انسانية على مدى قرون. ساهم فيها سياسيون وفلاسفة وعلماء طبيعة وكيمياء ورياضيات وشعراء وموسيقيون وعلماء نفس واجتماع، ففي مثل هذه البيئة المزدحمة بعملها وانتاجيتها يصبح المجتمع قادرا على ان تكون لديه الثقة بالنفس على ان ينتقد نفسه بما في ذلك انتقاد سطوة رجال الدين على المجتمع. لكن هذا النقد نفسه هو الذي استطاع كذلك ان يطور رجال الدين انفسهم، وان يوسع مجال ثقافتهم الى ما هو ابعد من الكتاب المقدس وتعاليم المسيح، وان يرتقي برجال الدين انفسهم ليصبحوا بمستوى الحوار الدائر في المنتديات الاكاديمية وان يحول علم اللاهوت المسيحي الى علم تمتد مصادره المعرفية الى علوم اجتماعية وفلسفية وانسانية مغنية طالب «الشريعة» المسيحي، ممكّنة اياه من التخاطب بلغة العصر.
لقد كان لي أخيرا لقاء مع السفير البابوي لدولة عربية، وكان هو نفسه عربيا من لبنان وكان الحديث حول كيف استطاعت المسيحية ان تكيف نفسها مع متغيرات الحياة في اوروبا على مدى القرون الثلاثة الاخيرة، وقد وجهت اليه السؤال: اما تعتقد يا حضرة المطران أن دراسة اللاهوت قد ارتفعت في الديانة المسيحية بتأثير العلمانية؟ فكان جوابه: لا استطيع الا ان اتفق معك.
قد لا يعلم هؤلاء المصلون الذين تجمعوا في تلك المدينة الأميركية الصغيرة صبيحة ذلك الاحد الذي شاركتهم فيه الاستماع الى خطبتهم عن الظروف التاريخية والشروط الاجتماعية التي ادت الى ان يكون محتوى صلاة او خطبة قسيسهم متسامحة شكلا ومضمونا، لكنهم بالتأكيد لن يسكتوا عنه لو انه تعرض الى اعتقادات طوائف مسيحية او ديانات اخرى، ولو سكت عنه البعض، فلن يسكت عنه البعض الآخر. والقناعة بأن يكون المجتمع متسامحا ومتقبلا للآخرين ليس بضاعة او خدمة تشترى، وانما مكافأة تدخل الطمأنينة الى القلوب، ولا تستحقها الا المجتمعات التي تبذل جهودا في المشاركة في تكوين هذه الحضارة الانسانية التي حولت العالم الى قرية صغيرة.