انتحار مدير عام
عادة ما أطالع الصحف المحلية لأي دولة أزورها، وإن كانت بلغة أجهلها فإنني ألجأ للنسخ التي تصدر باللغة الإنجليزية، كي أتعرف أكثر على المجتمع المحلي، وأركز على أخبار التربية والتعليم، ومن ثم التنمية البشرية، وأخيرا أمر على المواضيع الثقافية من فعاليات ومعارض ومتاحف، وفي زيارتي مؤخرا للصين فوجئت بخبر انتحار مدير عام التعليم لإحدى المقاطعات، شدني الخبر فأكملت القراءة لأتعرف على ما جعل رجلا بمكانته يقدم على فعل شنيع كهذا.
يقول الخبر إنه تم سؤال من كانوا يعملون معه، فتبين أنه كان يئن من ضغط العمل، ليس من عدد الساعات التي كان يقضيها في المكتب، وليس بسبب انشغاله بالاحتفالات التي تركز على ذرّ الرّماد في العيون من خلال تصريحات "سنفعل وسنقوم"، وتلميع الصورة أمام أولياء الأمور والمعلمين والمعلمات ممن ينتظرون التحرك من أجل دراسة أوضاعهم ومشاكلهم ولا "يجدون". لقد كان صاحب الضمير الحي يجاهد وعلى حساب صحته وراحته من أجل التلاميذ! هنا ازداد فضولي، وتساءلت: ما الذي يخص التلاميذ بحيث يجعله يشعر أنه في خندق لا يستطيع أن يخرج منه إلا بالموت؟! فأكملت، ولكن هذه المرة شعرت بأنني أتسابق مع الكلمات كي أصل إلى قلب الموضوع، يقول الخبر إن حضرة المدير العام وجد أن الميزانية التي خصصت للمنطقة لا تكفي لدفع فواتير الفحم لتدفئة المدارس، وتوجه هذا المدير إلى المناجم يبحث عن أسعار منخفضة، وبعد مساومة مريرة، وافق بعضهم أن يرسل كمية قبل الدفع، ولكنهم كانوا قلة، وهذا يعني أن غالبية التلاميذ سيقضون شتاء قارسا في مدارسهم، فهل انتحر لهذا السبب فقط أم لأسباب أخرى؟ لا أدري ولكن ما أثارني حقا أن مسؤولا عن مصالح التلاميذ يقوم بكل هذا المجهود وبإصرار عجيب مصاحب بضغوط على أعصابه وصحته ونفسيته!
نحن بالطبع لا نتمنى ولا نتوقع من أي إنسان مؤمن أن ينتحر، ولكن على الأقل هل قرأنا عن مرض أحدهم جراء معاناته مع المقاولين ومتابعتهم قبل وخلال وبعد الانتهاء من بناء المدارس، هل تم التأكد من عدم حدوث أي هدر للأموال التي تخصصها الدولة لمثل هذه المشاريع؟ هل سقط أحدهم من الإرهاق من كثرة السفر والزيارات للمدارس في المناطق وحضور حصص يوم كامل في إحداها، هل أصيب أحدهم بانهيار عصبي لأنه لم يتمكن من تأمين المدرسين أو المدرسات للمدارس؟ هل وقع أحد حين إعلامه بأن الكثير من الأطفال لا يحصلون على أي غذاء صحي، بل إن الكثيرين منهم يقدم لهم العلم في بيئات غير صحية، وهل.. وهل.. وهل؟ لا أظن، ماذا عنكم هل سمعتم أنتم؟ نتمنى للجميع الصحة والعافية والعمر الطويل بإذنه تعالى، ولكن نتمنى أيضا أن يحظى يوما أطفالنا ومعلموهم ومعلماتهم بمثيله في الشعور بأهمية وثقل مسؤولية كهذه.
الكاتب...ميسون الدخيل