الذكاء وكيف تحصل عليه
لقد ثبت من إجراء اختبارات للذكاء على أطفال، ثم إحداث تغيرات على بيئة هؤلاء الأطفال أنفسهم، ومن ثم إجراء اختبارات بصورة دورية مع تحليل نتائج سلسلة هذه الاختبارات على مدى سنوات، أن كلا من الوراثة والبيئة تلعبان دورا مهما في تحديد مستوى الذكاء. فريتشارد نسبيت Richard Nisbett في كتابه «الذكاء وكيف تحصل عليه» الذي صدر أخيرا يوضح أهمية دور الوراثة والبيئة في تحديد مستوى الذكاء بتقديمه لنتائج ابحاث ودراسات حول اثر المتغيرات البيئية من عائلة ومدرسة على القدرات العقلية للنشء. ولعل من اهم الابحاث تلك التي أجريت على توائم متشابهة أو متطابقة (التوأم الناتج من انشطار بويضة مخصبة واحدة) تم تبني أحدهما ليعيش في ظروف بيئية عائلية ومدرسية أفضل، واثر ذلك في مستوى ذكائه. فقد أثبتت نتائج هذه الاختبارات أن هناك تحسنا في مستوى ذكاء الطفل الذي يتربى في بيئة أفضل مقارنة بشقيقه التوأم الذي تربى في بيئة أقل حظا يصل إلى 14 درجة على مقياس متوسطه 100 درجة. لذا فإن هناك تحسنا كبيرا في مستوى الذكاء لكنه يبقى محدودا.
لكن أهم ما لفت نظري في هذا الكتاب، هي النتائج التي وصل إليها المؤلف من أن تأثيرات البيئة في مستوى الذكاء تحدث بصورة تراكمية ومستمرة وعلى مدى أجيال متعاقبة. فيذكر مثلا أن أداء السود المهاجرين من جزر البحر الكاريبي إلى الولايات المتحدة في اختبارات الذكاء هو أفضل من السود الأميركيين، هذا مع الأخذ في الاعتبار الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها هاتان الفئتان. ويعزو Nisbett هذا التفوق للسود من جزر البحر الكاريبي على السود الأميركيين إلى الأثر البيئي الاقتصادي والاجتماعي الذي تشكل على مدى أجيال متعاقبة. ويشرح Nisbett أن السود في جزر البحر الكاريبي سمح لهم ومنذ مئات السنين بالمشاركة في النشاط الاقتصادي، حتى عندما كانوا عبيدا. فقد أعطوا الفرصة في المشاركة في ربحية الأرض التي يزرعونها، ومكنوا من العمل بحرف مختلفة وتأسيس أعمال تجارية، وتكونت لهم دوافع لتطوير قدراتهم الذاتية. هذا بينما ظل السود الأميركيون المستعبدون، وعلى مدى مئات السنين، لا يعملون إلا في جني القطن مقابل قوتهم اليومي، ولم يسمح لهم بممارسة حرف أو المشاركة في النشاط الاقتصادي بصورة مستقلة. لذا فإن قدراتهم العقلية وعلى مدى أجيال لم يسمح لها بالتطور. والجدير ذكره هنا، أن السود الأميركيين هم أقل نقاء بسوادهم من السود في جزر البحر الكاريبي، حيث ان الجينات البيضاء تشكل %20 من جيناتهم، وذلك لتزاوج السادة البيض من نسائهم، وهذا قلما حصل بين السود والبيض في جزر البحر الكاريبي. فالجينات البيضاء التي يحملها السود الأميركيون لم ترفع من معدل ذكائهم، كما قد يعتقد أو يتوقع البعض. وبذلك يفند Nesbett هنا الطرح العنصري في تحليل نتائج اختبارات الذكاء. هذا مع أن نتائج اختبارات الذكاء للاطفال البيض في أميركا تزيد على تلك للأطفال السود. لكن تحليل هذه النتائج من دون الاخذ في الاعتبار البيئة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لهؤلاء الأطفال، وبصورة تراكمية وعلى مدى أجيال يقودنا خطأ إلى الوصول إلى أحكام عنصرية.
بقي أن نذكر أن المؤلف أضاف عنوانا إضافيا لعنوان كتابه الطويل: «الذكاء وكيف تحصل عليه». وعنوانه الإضافي هو: «لماذا يجب أن نعطي الاعتبار لدور المدرسة والثقافة». والثقافة تعني هنا العادات والجو الثقافي والاجتماعي المحيط بالطفل منذ بداية نشأته. لذا وان كان الكتاب ممتعا لكل أب وأم، فإنه موجه للمهتمين في مجال التربية. ولعل هدفه الرئيسي هو إلقاء الضوء على بحوث قيمة في مجال التربية ليستفاد منها في تحسين الظروف المحيطة بالطفل، ان كان ذلك في البيت أو المدرسة لرفع مستوى ذكائه. فالكتاب يعطي أملا بالإمكانية الكبيرة لتحسين قدرات الأطفال، ويحمل الكبار المسؤولية في تحقيق ذلك.
كتب د/حامد الحمود :