نصائح تزن ذهباً
كتب طلال عبدالكريم العرب :
يروى أن رجلاً ضاقت به سبل العيش في بلده، فقرر أن يهيم على وجهه في بلاد الله الواسعة، فترك بيته وأهله وغادر نحو الشرق، فقادته خطاه الى بيت أحد الشيوخ، فرحّب به وأكرم وفادته، وبعد انقضاء أيام الضيافة، سأله الشيخ عن غايته، فأخبره عن حاله.
توسم الشيخ خيراً في ذلك الغريب، فطلب منه العمل لديه أجيراً، وسيعطيه ما يرضيه، وافق الغريب من فوره، لشدة حاجته. بقي الرجل يعمل، لسنوات، لدى الشيخ، يقضي له حوائجه، ويساعده في تجارته. وكان الشيخ يجزل له العطاء، بين الحين والآخر، ببعض الابل والماشية. بعد سنوات، اشتاق الرجل الى أهله، فاستأذن الشيخ بالعودة الى دياره، فكافأه الشيخ على صدقه وأمانته بمزيد من الابل والماشية. سار الرجل مسافة طويلة في صحراء قاحلة، فرأى شيخاً جالساً على قارعة الطريق، حيّاه الرجل وسأله ماذا يفعل وحيداً في هذا المكان المنقطع، تحت الشمس الحارقة، رد عليه الشيخ بأنه يعمل في التجارة. تعجب الرجل ورد متسائلاً: وما هي تجارتك يا هذا؟ وأين بضاعتك؟ فقال له الشيخ: بضاعتي هي بيع النصائح. فقال الرجل: تبيع نصائح، وبكم النصيحة؟ فقال الشيخ: كلّ نصيحة ببعير. أطرق الرجل مفكراً فنصائح الشيخ باهظة الثمن، فقد عمل طويلاً، وكد ليحصل على تلك الثروة من الجمال والماشية.. ولكنه، وفي نهاية الأمر، قرر أن يشتري نصائح قد يستفيد منها، فدفع له من جماله فتسلم مقابلها من الشيخ نصائح، وهي: «اذا طلع سهيل لا تأمن السيل»، و«نم على الندم ولا تنم على الدم». ترك الرجل الشيخ نادماً على خسارة جماله مقابل نصائح لا يرى لها فائدة.
سار الرجل لعدة أيام، وفي احدى الليالي رأى قوماً نصبوا خيامهم ومضاربهم في قاع الوادي، فتعشّى وبات عند أحدهم. وبينما كان ساهراً يتأمل النجوم شاهد نجم سُهيل، فتذكر النصيحة التي كلفته جملاً، فهرع الى القوم الذين أضافوه، وأخبرهم بقصته وبنصائح الشيخ، وطلب منهم أن يخرجوا من قعر ذلك الوادي، الا أنهم سخروا منه ومن قلة عقله. قرر الرجل الغريب أن يأخذ بنصيحة الشيخ، فصعد بحلاله للمبيت في مكان مرتفع.
في الهزيع الأخير من الليل، صحا الرجل على هدير سيل جرف الوادي، ومن فيه، ولم يتبق الا بعض من مواشي القوم الذين قُضي عليهم. ساق الرجل ماشيته وما بقي من مواشي القوم. وبعد مسيرة عدة أيام وصل ليلاً الى دياره، وتوجه متلهفاً الى بيته، فوجد زوجته نائمة وبجانبها شاب يافع، فشهر سيفه يريد القضاء عليهما، وفجأة، تذكر نصيحة الشيخ الأخيرة «نم على الندم ولا تنم على الدم»، فهدأت أعصابه، وقرر أن يأتي بيته صباحاً، فتركهما وعاد الى ماشيته. بعد شروق الشمس، ساق أغنامه، بفارغ الصبر، عائداً الى بيته، فاستقبلته زوجته فرحة، وقالت له: انظر الى ابنك وقد كبر وأصبح رجلاً، فهو لا يفارقني، ويسهر على راحتي.
نظر الرجل الى ابنه الذي كاد يقضي عليه ليلاً، فحمد الله على سلامتهما، وشكر ربه أن هداه الى تذكر نصيحة ذلك الشيخ، وقال في نفسه، والله انها لنصائح تزن ذهباً.
«فلا تستهن بنصيحة من هو أكبر منك، ولا من هو أخبر منك، فالسعيد من استفاد من نصيحة وأفاد بها غيره».
* * *