«بشت» أبوي
كتب أنس محمد الرشيد :
اتذكر حين كنت اندس ملتصقا بوالدي تحت بشته «اليبر» في ليالي «الوفرة» الباردة.. كان بشته فضاء رحيبا بالنسبة لي.. كان دفء البشت ورائحة أبي هما الامان والملجأ من مخاوف عتمة الليل وصوت عويل كان يقطع سكون تلك المنطقة التي لم تكن مأهولة بعد.
في احدى الليالي.. كنت اسير معه الى المسجد لصلاة الفجر وانا في العاشرة من عمري.. والسكون يلف شوارع الضاحية.. كان ابي يسير على الشارع ممسكا بيدي وانا فوق الرصيف، باغتُّه.. فتبادلنا الاماكن.. سألني: شفيك؟ فقلت: يبا لو تدعمني سيارة عندك عيال غيري.. بس لو يصير فيك شي ما عندنا ابو الا انت. «فلتحيا».. قالها وانا اكاد اطير فرحا.. فكم كنت واخوتي نتسابق لنيل ثنائه.
لم يحصل والدي محمد احمد الرشيد على شهادة دراسية، ولكنه خريج مدرسة الحياة.. ركب البحر صيفا مع سائر ابناء جيله فوق سفن شراعية بسيطة بحثا عن اللؤلؤ في اعماق البحار، وابحر شتاء فوق ظهر المراكب الكويتية التي كان الناس ينتظرونها عند كل «بندر» ليبحلقوا برجالها السمر الجسورين. ومع ذلك حرص والدي على تعليمنا، ولكن شتان ما بين جيلنا المتعلم الجاهل.. وجيلهم «الأمي» المتعلم!
قدم والدي اول استجواب في تاريخ الحياة البرلمانية للعم المرحوم عبدالله مشاري الروضان، وانتهى الاستجواب في مكتب الوزير، اذ جمعهما العم صالح العجيري وتمت الاجابة عن استفسارات الوالد وتم تدوين ملاحظاته، فرجع والدي الى المجلس وسحب استجوابه.. وقدر لأول استجواب في تاريخ الكويت ان يكون نموذجا لروحية التعاون التي كانت سائدة بين الكويتيين آنذاك، لم يكن النائب يخشى «قواعده» بقدر خشيته لضميره!
كان شهما.. ذا مروءة.. لا يخالف القانون.. ولا يرتضي بالظلم. كان عنيفا في معارضته من دون تجريح.. لا يفجر في خصومة.. ولا يعقد الصفقات.. حتى في موته لم يشأ ان يستفيد من احد.. اوصانا بشراء الكفن والسدر والكافور والطيب من ماله الخاص.. هكذا كان.
غسلت والدي مع اخواني.. تسابقنا على تقبيل رأسه ويده.. قبلت آثار الكي التي وسم بها في صدره بعد رحلة غوص شاقة. طبعت على رأسه قبلة وداعية اخيرة، واغلقت الكفن.. وغطيته للمرة الاولى بـ«بشتي».. وبكيت جيلا من رجالات الكويت لن يعوض.
آه.. كم بدا «بشتي» صغيرا ذلك اليوم.