لا جديد في حكم الاختلاط
د / عبدﷲ بن عبدالعزيز العنقري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى ﷲ وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد
فقد قال نبي ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم " : إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا " (رواه أحمد ٤ / ١٢٧ ، وأبو داود ٤٦٠٧٨ )
وإن من اﻻختلاف الذي ذكر في هذا الحديث ما وقع ويقع من إنكار ما دلت عليه النصوص ، وتتابع على القول به علماء اﻷمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وتلكم محنة قديمة تتعدد أمثلتها بين حين وآخر ، بَيْد أنها أضحت في هذه اﻷزمنة المتأخرة أكثر انتشارا وأعظم استفحاﻻ .
ومن أشد ما يصيب الحليم بالحيرة أن يقع في هذا أحد من حملة العلم الشرعي ، أما الجاهل فلا عجب أن يخبص في اﻷمور ، وينفي ما هو مقطوع به عند أهل العلم ، فلا يترتب على صنيعه كبير خلل في الغالب ؛ ﻷنه في نهاية المطاف مجرد جاهل ٠
كما أن اﻷمر ﻻ يخفى على الناس إذا دخل في هذه اﻷمور من فُتِنوا بمد نية الغرب ومسايرة ما هم عليه من الحال البغيض في شتى مناحي الحياة ؛ﻷن بطﻼن منهج هذا الصنف واضح للعيان ، ﻻ يحتاج الناس في بيان بطﻼنه إلى كبير ﻋﻧﺎء ، كيف وقد قال قائلهم بأن علينا أن نساير هذه المدنية الغربية في خيرها وشرها ، وحلوها ومرها ، وما يعاب فيها وما يحسن !
إذاً اﻹشكال فيما يقع من حملة العلم الشرعي .
ومن آخر ما كثر الكلام فيه موضوع اﻻختلاط بين الرجال والنساء من غير المحارم ، حيث سوّغه بعضهم ، بل قال : إن ﻛﻠﻣﺔ ( اﻻختلاط ) مُحدثة لم يرد في النصوص ما يدل عليها بالكلية .
وهؤﻻء مسبوقون من أناس كتبوا في هذا الموضوع منذ عقود ، وكان كلامهم في نطاق كلام عام عن المرأة وحجابها وحدود علاقتها بالرجل .
وقد جمعوا نصوصا استدلوا بها على وجهتهم هذه ، غاضين الطرف عن نصوص أخرى جلّت المسألة ووضحتها .
ومن أعجب ما ذكروه أن كلمة ( اﻻختلاط ) تميزت – إضافة إلى كونها محدثة – ﺑﺎﻹﺑهام وعدم الوضوح ، ودلّلوا في هذا السبيل بوقائع جِرِت زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم ، من أشهرها اختلاط الرجال بالنساء بزعمهم حال الطواف ﺑﺎﻟﻛﻌﺑﺔ ، ، وفي المسجد عند أداء الصلاة دون نكير .
وغفل هؤﻻء عن وقوعهم فيما أنكروه على غيرهم ، حيث أوهموا بكلامهم هذا أن مجرد وجود الرجال والنساء في موضع واحد هو اﻻختلاط الذي منعه العلماء ، فأبهموا اﻷمر على الناس ، وأشعروا أن المنع من اﻻختلاط يقصد به منع اجتماع الرجال والنساء في أي موضع كان .
وهذا من تقويل أهل العلم ما لم يقولوا ، فإنهم لم يقولوا هذا ، ولم يكن اﻷمر عندهم بحمد ﷲ ملتبسا ، حتى يتحدث بالنيابة عنهم غيرهم ٠
وقد بين البخاري في صحيحه حقيقة هذا اﻷمر بما ترجم به على أمر ابن هشام والي مكة بعدم طواف النساء مع الرجال ، فقال رحمه ﷲ في صحيحه ( ٢ / ١٦٣ ) " باب طواف النساء مع الرجا ل " ثم ساق بسنده هذه المناقشة التي يتضح منها بجلاء أن طواف الرجال مع النساء ﻻ يعني أبدا اﻻختلاط بينهم .
والمناقشة كانت بين عطاء بن أبي رباح فقيه أهل مكة وبين تلميذه ابن جريج ، حيث قال عطاء منكرا صنيع الوالي : " كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى ﷲ عليه وسلم مع الرجال ! "
ﻓﻘال ابن جريج : " كيف يخالطن الرجال ! "
فجاء جواب عطاء واضحا ": لم يكن يخالطن "
ففرق – كما ترى – بين طواف الرجال مع النساء في موضع واحد ، وهو المسجد الحرام ، وبين اختلاط الرجال بالنساء .
والمحتجون على جواز اﻻختلاط يجعلون من أول ما يستدلون به على اﻻختلاط ما يكون في المسجد الحرام من طواف النساء مع الرجال ، ثم إن عطاءً وضح بعد ذلك كيف تطوف النساء مع الرجال ، دون أن يكون من آثار ذلك وقوع اﻻختلاط . فقال ضاربا المثال بالطيبة المطهرة عائشة رضي ﷲ عنها ": كانت عائشة تطوف حَجْرةً من الرجال ﻻ تخالطهم "
ومعنى قوله ( حجرة ) : ناحيةً ، مأخوذ من قولهم : نزل فلان حجرة من الناس : أي معتزﻻ انظر( فتح الباري ٣ / ٦٠٧ )
ليس هذا فحسب ، بل إن امرأة – كما في رواية البخاري المذكورة – قالت لعائشة ": انطلقي نستلم يا أم المؤمنين ، قالت : انطلقي عنك ، وأَبَت " .
وإنما أبت رضي ﷲ عنها ؛ﻷ ن اﻻستلام بالوضع الذي تريده المرأة سيترتب عليه مزاحمة الرجال واﻻختلاط بهم .
وهذا ما أنكرته أم المؤمنين رضي ﷲ عنها على موﻻة لها قالت : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا ، واستلمت الركن ﻣر تين أو ثلاثا ، فقالت لها : ﻻ أجرك ﷲ ، ﻻ أ جرك ﷲ ، تدافعين ا لرجال ؟ أﻻ كبرت ومررت " رواه ( الشافعي في اﻷم ٢ / ١٧٢ ، والبيهقي من طريقه في السنن الكبرى ٥ / ٨٠ )
فتأمل كيف بررت عائشة إنكارها على موﻻتها بأن صنيعها سيؤدي حتما إلى مزاحمتها للرجال ، وهو عين اﻻختلاط الذي نأت أم المؤمنين بنفسها عنه ، وإن كانت الجاهلة من النساء تستسهله ، بدعوى إقامة السنة باستلام الركن .
وإذا عدنا لرواية البخاري التي بدأنا بها وجدنا اﻻحتياط التام ﻹبعاد النساء عن اﻻختلاط بالرجال ، حيث يقول عطاء ": فكن يخرجن متنكرات بالليل ، فيطفن مع الرجال ."
ومعنى " متنكرات " مبيّن في رواية عبد الرزاق ( 5 /67 )، حيث قال " مستترات "
هذا اﻻحتياط اﻷول .
أما اﻻحتياط الثاني فبينه عطاء بقوله ": ولكنهن كنّ إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن ، وأُخرج الرجال "
والمعنى كما في ( فتح الباري ٣ / ٦٠٧ ) " إذا أردن دخول البيت وقفن ، حتى يدخلن ، حال كون الرجال مخرجين منه "
وهل كل هذا إﻻ من باب تجنب اختلاطهن بالرجال؟
ولهذا فإن النبي صلى ﷲ عليه وسلم لما وقع اختلاط محرم للنساء بالرجال مرة بادر عليه الصلاة والسلام بإنكاره ، فروى ( أبو داود ٥٢٧٢ ) عن أبي أسيد اﻷنصاري رضي ﷲ عنه أنه سمع رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد ، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم للنساء ": استأخِرْن ، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ، عليكن بحافات الطريق ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار ، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به "
ومعنى (ليس لكن أن تحققن الطريق ) أ ي وسطها ، كما في ( النهاية ﻻبن اﻷثير ١ / ٤١٥) 0
وقد ترجم أبو داود على الحديث ترجمة قريبة من ترجمة البخاري على طواف الرجال مع النساء ، فقال أبو داود : " باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق " 0
ففهم رحمه ﷲ أن المشي في الطريق ﺷﻲء ، واﻻختلاط الذي أنكره النبي صلى ﷲ عليه وسلم شيء آخر .
وذلك أن الطرق ﻻيمكن أن يُمنع الناس من المرور فيها ، فيمر الرجال وتمر النساء ، ولكن ﻻ يحل أن يكون ذلك على حال من اختلاطهم .
ومن هنا ترجم أبو داود في السنن على صلاة النساء مع الرجال في المسجد ترجمة تبين حقيقة ما كان عليه الناس زمن النبوة من التباعد من اﻻختلاط فقال " : باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال " ثم ساق بسنده عن ابن عمر رضي ﷲ عنهما أن النبي صلى ﷲ عليه وسلم قال " : لو تركنا هذا الباب للنساء " فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات .
قال صاحب (عون المعبود ٢ / ١٣٠) " : لو تركنا هذا الباب " أي باب المسجد الذي أشار إليه النبي صلى ﷲ عليه وسلم لكان خيرا وأحسن ؛ لئلا تختلط النساء بالرجال في الدخول والخروج من المسجد ، والحديث فيه دليل أن النساء ﻻ يختلطن في المساجد مع الرجال ، بل يعتزلن في جانب المسجد "...
وقد جاء اﻻحتياط من اﻻختلاط المحرم حتى في اﻷحوال الصعبة ، فهذا رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم لما حضرت الوفاة صاحبه الجليل أبا سلمة حضره النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبين النساء ستر مستور ، كما رواه ( ابن سعد في الطبقات ٣ / ٢٤١ ) .
فهذا الستر المستور بين الرجال والنساء ليس له معنى إﻻ منع اﻻختلاط ، مع أن الموضع فيه رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم – أزكى الناس وأطهرهم وأبعدهم عن أي ريبة - .
كما أن القوم –رجاﻻ ونساء – ينتابهم الحزن بوفاة هذا الصحابي الكريم ، وذلك كله مما يجعل فتنة الرجال بالنساء – والحال ما ذكر - بعيدة كما ﻻ يخفى .
ومع ذلك كله لم يغفل عن وضع هذا الستر المستور ، فأين من يزعمون انتفاء الخطر في حال ما أسموه بسلامة قلب الرجل والمرأة ؟
أيجدون قلوبا أسلم من قلوب الموجودين في بيت أبي سلمة إذ ذاك ؟
وإذا احتاجت النساء إلى موضع فيه رجال خرج الرجال ؛ ليدخلن ، وكذا العكس ، وﻻ يجتمعون اجتماعا يترتب عليه اختلاطهم ، كما تقدم في رواية البخاري " : إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن ، وأخرج الرجال "
وهذا بعينه ما وقع عند مصاب عظيم حلّ بالمسلمين ، إذ طُعِن عمر رضي ﷲ عنه ، واجتمع الرجال عنده ، فلما جاءت حفصة بنت عمر ومعها النساء أخلى الرجال المكان ، ﻓبقيت عنده ساعة لم يدخل الرجال فيها ، فلما أرادوا الدخول استأذنوا ، فعند ذلك قامت وأخلت المكان ليدخلوا .
قال عمرو بن ميمون فيما رواه ( البخاري ٤ / ٢٠٥ ) : " وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم ، فسمعنا بكاءها من الداخل "
فلماذا كل هذا ؟ والمصاب جلل ، والقلوب قد اشتغلت بما وقع ﻷمير المؤمنين أشد اشتغال ، حتى قال عمرو بن ميمون ": كأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ " ( البخاري ٤ / ٢٠٥ )
إن السبب واضح لمن أنصف ، فقد كان الغرض منع اﻻختلاط .
ولم يقل أحد من الموجودين في المكان ، ﻻ عمر رضي ﷲ عنه وﻻ غيره : إن هذا الفعل تكلف مذموم ، إذ الظرف أدق من أن يتعامل معه الناس بمثل هذا اﻷسلوب . فحفصة رضي ﷲ عنها أم للموجودين ؛لكونها أم المؤمنين ، والرجال الحاضرون من خيار المسلمين ، فيهم ابن عباس ر ضي ﷲ عنهما وغيره من اﻷخيار ، فما الداعي لمثل هذا ؟
لم يقولوه؛ لما استقر عندهم من منع اختلاط الرجال بالنساء .
ويا سبحان ﷲ ! كيف يستنكر منع اﻻختلاط في أمة كان المسلمون فيها زمن نبيهم وزمن الصدر اﻷول يعودون بناتهم لزوم الخدور : جمع خدر ، وهو ناحية في البيت ،يترك عليها ستر، وتكون فيه البكر ، كما قال ابن اﻷثير في ( النهاية ٢ / ١٣ ) 0
وذكر القرطبي أنها تلازم الخدر إلى أن تخرج منه إلى بيت زوجها ( المفهم ٦ / ١١٥ - ١١٦ )٠
فإذا كان هذا مما يصنعه أولئك السلف اﻷخيار داخل بيوتهم ، و ينشئون عليه أبكارهم ، فكيف يظن بهم أنهم يرسلون هؤﻻء اﻹناث ، ليختلطن بالرجال خارج البيوت بلا نكير ٠
وﻻ ريب أن تتبع الروايات الواردة في المنع من اﻻختلاط يطول ، والغرض من الكتابة بيان اﻷمر بإيجاز قدر المستطاع ، ولو ذهبنا نسرد كلام أهل العلم من الشراح والمفسرين والفقهاء لطال بنا المقام ، وهو موجود بحمد ﷲ في موضعه لمن أراد الوقوف عليه ، غير أني أحب أن أنبه على أمرين بشكل مجمل :
اﻷول : أن هناك أخبارا كثيرة فيها رواية الرجال عن النساء ، ورواية النساء عن الرجال ، وهذا مما قد يتوهم البعض منه وجود اختلاط بينهم ، إذ كيف يروي رجل عن امرأة من دون أن يختلط بها !
والحق أن ذلك وقع دون اختلاط ، وهذا يدركه من عرف حال السلف ، وما كانوا عليه من اﻻحتراز عن الفتنة .
ولذا فإن الذهبي في ( السير ٧ / ٣٨ ) لما نقل إنكار هشام بن عروة على ابن إسحاق أن يحدث عن امرأته ، ﻗﺎﺋﻼ : " تحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر ! وﷲ إن رآها قط "
قال الذهبي : " هشام صادق في يمينه ، فما رآها ، وﻻ زعم الرجل أنه رآها ، بل ذكر أنها حدثته ، وقد سمعنا من عدة نسوة ، و ما رأيتهن ، وكذلك روى عدة من التابعين عن عائشة ، وما رأوا لها صورة أبدا "
ومراد الذهبي أن نقل الرجل عن امرأة ﻻ يعني أبدا اﻻختلاط بها ، فضلا عن رؤيتها ، وذلك لوجود ما يمنع اﻻختلاط بين الرجال والنساء .
وهذا واقع دراسات الطالبات الجامعيات منذ سنين في بلدنا المملكة العربية السعودية ، وقد تفوق عدد منهن ، ووصلن إلى مرحلة الدكتوراه ، ثم جاوزنها ، من خلال التدريس بواسطة الدائرة التلفزيونية ، دون اختلاط بحمد ﷲ .
التنبيه الثاني : أن هنالك روايات كثيرة قبل نزول الحجاب يتجلى فيها اختلاط الرجال بالنساء ، وهذه الروايات ﻻ ينبغي للمنصف أن يحتج بها ، فإن اﻻحتجاج بما قبل الحجاب ﻻ دﻻلة فيه ؛ ﻷنه الوضع الذي كان عليه الناس قبل نزول الحكم الناسخ ، شأنه في ذلك شأن أي حكم منسوخ ، ﻻ يحل اﻻستمساك به ، بعد أن ورد ما ينسخه ، وإﻻ ﻷمكن أن يحتج أحد على جواز نكاح المتعة بأدلة إباحته قبل النسخ .
وقل مثل هذا في نظائره من المنسوخات .
وفي بعض اﻷدلة الورادة في شأن زينة النساء الواجب سترها التنبيه إلى أن ما قد يظهر منها للرجال كان قبل اﻷمر بالحجاب ، كما في قول عائشة رضي ﷲ عنها مبينة سبب معرفة صفوان بن المعطل لها " : فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت حين عرفني ، ﻓﺧﻣﱠرتُ وجهي بجلبابي " رواه (البخاري ٧ / ٦ ومسلم ٤ / ١٦٩٢ )
فقولها : (( وكان يراني قبل الحجاب )) جواب لسؤال يتبادر إلى ذهن السامع من قولها قبل ذلك : )) فعرفني حين رآني )) فبينت أن ذلك إنما كان قبل تشريع الحجاب ، فلا عجب أن يراها ، كما كان الرجال يرون النساء ويختلطون بهن أول اﻷمر، فلما شرع ﷲ الحجاب بادرت إلى تغطية وجهها .
ومثل هذا قولها رضي ﷲ عنها كما في ( البخاري ٧ / ٥ ) : (( لما قدم رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم المدينة وعك بلال وأبو بكر فدخلت عليهما )) ٠
فهذه الواقعة كانت قبل فرض الحجاب ، ولذا قالت كما في رواية ابن إسحاق : ((ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب )) ( فتح الباري ٧ / ٣٢٨ )
ومما يوضح ذلك مارواه البخاري ( ١ / ٥٦ ) عن ابن عمر رضي ﷲ عنهما أنه قال : (( كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان الرسول صلى ﷲ عليه وسلم جميعا ))
فهذا الحديث أجاب عنه سحنون أحد أئمة المالكية بأن معناه أن الرجال كانوا يتوضئون ويذهبون ، ثم تأتي النساء ، فيتوضأن ، وبه أجاب ابن التين ،لما في لفظه من التدليل على اﻻختلاط الذي استقر منعه عندهما .
لكن اﻷولى في الجواب ، كما قال ابن حجر في ( الفتح ١ / ٣٩٠ ) : (( أن يقال ﻻمانع من اﻻجتماع قبل نزول الحجاب ، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم )) ٠
ومما يبين ذلك أن إخراج الذراعين في الوضوء ليمسهما الماء أمر ﻻبد منه للرجال والنساء ، فهل يقول من يستدل بهذا الحديث على تسويغ اﻻختلاط : إن ذلك أمر ﻻ بأس بوقوعه من النساء بمحضر من الرجال ؟
ﻻ ريب أنهم ﻻ يقولون بذلك ، فلوا احتج أحد لجواز إبداء المرأة ذراعيها أمام الرجال بهذا الحديث لما وجدوا جوابا إﻻ أن يقولوا : هذا أمر قبل إيجاب الحجاب .
وعليه يقال : فما الذي سوغ لكم اﻻحتجاج بهذا الحديث على جواز اﻻختلا ط ، ثم لما احتج بالحديث نفسه على إبداء الذراعين سارعتم إلى نفي دﻻلته على ذلك ، ﻷنه قبل الحجاب ! ؟
وبكل حال ، فلو فرضنا أن هذه اﻷدلة التي ذكرت ـ وغيرها كثير ـ لم تقنع هؤﻻء المسوغين للاختلاط ، ورأو أن لديهم اﻷدلة على صحة ما اختاروه ، كما أن لديهم اﻷجوبة على كل دليل يدل على منع اﻻختلاط ، فيبقى سؤال كبيرعليهم اﻹجابة عنه ، مستشعرين أن ﷲ تعالى سيسألهم عن جوابهم .
وهذا السؤال : هل اﻻختلاط الذي يزعمون وجوده زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه هواﻻختلاط الذي يريدون جرَ الناس إليه ، بحيث ﻻينتج عن هذا اﻻختلاط إﻻ مانتج عن اﻻختلاط الذي يزعمون وجوده زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه ؟
فهل يجدون في اختلاط اليوم ماورد في حديث أبي داوود من ابتعاد المرأة عن الرجل في الطريق حتى تلتصق بالجدار ؟
وهل الوضع الذي بيَنَاه من حال السلف في الطواف والصلاة في المساجد ، بحيث يعتزل النساء عن الرجال عزلة حقيقية ،هواﻻختلاط الذي يتحدثون عنه اليوم ؟
وبالتالي : هل النصوص التي استدلوا بها على اﻻختلاط المزعوم ، زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم هو اﻻختلاط الذي يدعون إليه ، بحيث تطابق اﻷدلة التي احتجوا بها عين المسألة التي احتجوا لها ؟
فإن قالوا : نعم ـ وﻻ نظن منصفا منهم يقول ذلك ـ فلينظروا في آثار اﻻختلاط الواقع في كثير من البلدان اليوم ، وما جر على اﻷمة من المفاسد العظيمة ، وليقولوا : إن هذا اﻻختلاط في أصله سائغ ، وهذه اﻵثار المترتبة عليه ـ مهما كانت مريرة ـ نتيجة ﻻبد منها ﻷمر دلت عليه النصوص ! نعوذ بالله من منكرات الأقوال والأعمال .
وإن قالوا : ﻻ ـ وهو المظنون بالمنصفين منهم ـ بل اﻻختلاط الذي ننسبه إلى زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه يختلف كل اﻻختلاف عن اختلاط اليوم ، وﻻ ينبغي مقارنة هذا بذاك .
فيقال لهم : بأي حق استدللتم بنصوص ذات ضوابط محددة ، مربوطة بوقائع معينة على واقع يختلف كل اﻻختلاف عن تلك الوقائع . ؟ فوسعتم الدائرة حتى شملت ماﻻ يدخل في دﻻﻻت النصوص ، وألحقتم المسألة المبحوثة بما ليس من نظائرها ٠
وهل سيبقى للنصوص كلها مدلول واضح إذا أدخل فيها ما ليس منها ، على النحو الذي صنعتموه ؟
إذا فليحسبوا لدعوتهم الحساب الدقيق ، وليتأملوا في المصير الذي يمكن أن تُجرّ إليه اﻷمة ، وليحذروا من تناول هذه المسائل العظيمة بأسلوب المراء والجدل المحض الذي ينظر فيه إلى مجرد ادعاء الغلبة ، وزعم التمكن من إسقاط ﺣﺟﺞ المخالف ، دون النظر فيما يترتب على هذه اﻷمور من العواقب .
وهذا هو الذي نخشاه من دخول حملة العلم الشرعي في هذه الدعوة .
ومما يبعث على القلق تلكم الطريقة العنيفة التي اختاروا طرح وجهتهم من خلالها ، من قبيل وصف المنكرين للاختلاط ﺑﺎﻟﻣﺣدثين ، وكأنهم قد دعوا اﻷمة إلى هدي كسرى وقيصر قبل الإسلام ، ﻻ إلى ما دلت عليه النصوص .
ومن ذلك وصفهم بالجمود والدفاع عن المألوف الذي اعتادوه ، وأرادوا أن ينسبوه إلى الدين ، في عبارات تقشعر منها قلوب المنصفين ، لما يترتب عليها من وصم علماء اﻷمة قديما وحديثا بهذه اﻷوصاف المقذعة 0
فإن منع العلماء من اﻻختلاط ليس شيئا حديثا اختاره علماء متأخرون في بيئة محددة ، كما يهوون أن يصوروا للناس ، ليحصروا معركتهم مع علماء بلد معينين ، بل المنع من اﻻختلاط قديم في كـﻼم السلف ومن بعدهم ، كما تقدم في قول عطاء وسحنون وكلام ابن حجر وابن التين وصاحب عون المعبود ، وغيرهم كثير ممن لو نقلت كلامهم ، وعددت أزمنتهم وأوطانهم لطال بنا المقام جدا .
وكتب أهل العلم مليئة بالشواهد على هذا ، وﷲ المستعان ..
نسأل ﷲ أن يرينا وإخواننا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل
باطﻼ ويرزقنا اجتنابه ، وأن ﻻيجعله ملتبسا علينا فنضل ، كما نسأله تعالى أن يجعلنا من مفاتيح الخير ، مغاليق الشر ، وأن ﻻيجعلنا من مفاتيح الشر ، مغاليق الخير . ونسأله أن ينصر هذا الدين ، ويعز السنة ويحببها إلينا ، وأن يؤلف بها بين قلوبنا . وﷲ أعلم وصلى ﷲ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه 0
وكتب : د / عبدﷲ بن عبدالعزيز العنقري
عضو هيئة التدريس بقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الملك سعود بالرياض
يوم الثلاثاء 21 / 12 /