كلٌّ ينفق مما عنده
جاء في أثر إسرائيلي أن المسيح عيسى -عليه السلام- مرّ بجماعة من يهود؛ فغمزوه، ولمزوه، فقال لهم قولاً حسناً، فقيل له: ألا تردّ عليهم بما يستحقون؟
قال: "كلٌّ ينفق مما عنده".
فهذه الكلمة العظيمة جرت مجرى الأمثال في إيجازها وعمقها، وتعبيرها عن المراد، وصحة الاستشهاد؛ إذ يصلح أن يُستشهد بها في كثير من المناسبات والأحوال، ولهذا فلا غرو أن تتباين أقوال الناس، وردود أفعالهم صحةً وخطأً، وذوقاً وأدباً، وحسناً وسوءًا؛ لأن كلاًّ ينفق مما عنده.
وقد يكون الحدث واحداً، والكلام موجّهاً لفئة واحدة، ومع ذلك تختلف المواقف تبعاً لاختلاف الأمزجة، والطبائع، والثقافات، والأخلاق.
ومما يحضرني في هذا الشأن أن أحد الناس أُذيعت له كلمة في مناسبة من المناسبات، فلقيت استحساناً؛ فهاتفه أحد معارفه ممن نالوا قسطاً عالياً من التعليم، فشكره على تلك الكلمة، ودعا له، وأبدى فرحه وإعجابه بها.
وبعدها بلحظات يسيرة هاتفه شخص آخر مماثل للأول في سنه وفي تعليمه فقال -وهو يريد أن يعبر عن إعجابه-: يا الله صباح خير، أول ما فتحنا الإذاعة سمعنا صوتك!
فلماذا اختلفت ردود الفعل؟ مع أن الموقف واحد؟
الجواب: لأن كلاً ينفق مما عنده، فالأول صاحب ذوق رفيع، ونفسٍ مرهفة.
والآخر بخلاف ذلك.
ويحدثني أحد الأصدقاء عن قريب له يكبره في السن، ويُخْبِرَ عنه أنه ذو فضل، وحياء، وتكرم، وسلامة صدر.
ويذكر من أحواله أنه كثيراً ما يحضر إلى مجلس وفيه أخلاط من الناس، فينظر إليهم نظرة المحبّ لهم، المحسن الظنّ بهم، مع أنّ فيهم من لا يستحق ذلك.
وعلى النقيض من ذلك فهناك من لا يثق بأحد من الناس البتّة؛ فلو أحسن إليه أحد لاستراب منه، ولظن أن وراء ذلك نيةً مُبَيَّتَةً.
فما الذي جعل المنظار الأول يزهر، ويضيء، وجعل الآخر يُغَبِّشُ ويَسْوَدُّ؟
إنه إنفاقُ كلِّ أحدٍ مما عنده؛ فالأول نفسه كريمة، نزيهة؛ فهو ينظر إلى الناس من خلال تلك المرآة الصقيلة الصافية، وتلك الأرض الطيبة المباركة.
والثاني نَفْسُهُ كَزَّةٌ قَلِقَةٌ، مضطربة، وأرضُه سَبِخَةٌ لا تُخرج إلاّ نكداً؛ فهو ينظر من خلالها إلى الأشياء نظرةَ خوفٍ، وارتيابٍ.
ويُقاس على ذلك أحوال كثيرة جداً.
وبعد فماذا عندك تنفقه من قول، أو عمل، أو ظن بالناس؟
فليت الـذي بيني وبينك عـامر *** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى *** فكل الذي فوق التراب تراب