ثقافة القسوة

ثقافة القسوة

كتب عبدالنبي العطار :

هزني بشدة منظر رجل الانقاذ في هايتي وهو يرمي بجثة طفل متوفى الى كومة من الجثث كما يرمي كيس الزبالة. نعلم جميعاً أن الوضع في هايتي بعد الزلزال يعتبر وضعاً كارثياً، والموت ضارب بظلاله السوداء كل مكان، ولا يوجد أي شيء يحتمي به الانسان، بل وحتى الحاجات الأساسية مفتقدة مثل الماء والطعام والأمن. ولكن أن يصل الأمر بالانسان أن يفقد حتى انسانيته فهذا أمر فوق التصور. لست متخصصاً في التحليل النفسي ولكن من خلال اطلاعي المتواضع على الثقافة السائدة في ربوع هايتي وهي عبارة عن نتاج قرون طويلة من الاستعمار في احط صوره، وفقر مدقع وجهل تعليمي وثقافي وفساد سياسي واقتصادي ضارب اطنابه وحكم دكتاتوري يتلوه انقلاب عسكري، وتحكم من قبل شركات المال الغربية في اقتصاد هذا البلد. كل هذا وغيره ربما يعتبره بعض ضعاف النفوس مسوغاً لتجميد الضمير ووضع الانسانية جانباً، والتصرف بما تمليه غريزة الجوع والخوف والحاجة الى الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة، على أنها دوافع مقبولة للقسوة في التعامل مع الآخر. ولكن حتى هذا البعض يقر بأن هذه الممارسة خطأ ويدينها على أنها لا تمثل ثقافته ومعتقده، وبالتالي لا يلتمس العذر بقدر التماس الفهم. اذاً على أي اساس نفسر موقف من يقتل المدنيين العزل رجالاً ونساء واطفالاً بتفجير بيوتهم ومساكنهم اما بالمفخخات او الطائرات، فيقتل العشرات بل الالوف ليقنعنا أنها غزوة في سبيل الله؟ كيف نعلل موقف من يفجر الأسواق فيقتل المتسوقين الآمنين والكادحين في رزق عيالهم لمجرد احراج الحكومات اعلامياً؟ كيف نفهم من يفجر اماكن العبادة في مساجد وكنائس ومزارات عباد الله من مسلمين ومسيحين بل وحتى اليهود وغير الموحدين بدعوى ترسيخ عقيدة التوحيد؟ كيف نعلل ممارسات من يذبح خلق الله من الوريد الى الوريد علناً على شاشات التلفزة من منطلق ارهاب العدو؟ اذا كان الانسان في هايتي ربما يتعلل بالفقر والحاجة وضغط فوضى الزلزال وفقدان التربية الفكرية والتعليم السابق على كارثة الزلزال لكي يبرر انسلاخه من الانسانية، فما هي مبررات الصنف الآخر من البشر وهو يرفل بالنعمة المادية وفوقها نعمة أرقى ثقافة ممكن أن يصلها بشر، واعني بها نعمة الاسلام؟! كيف وصل به الأمر الى هذا الحد من الشراسة وعدم احترام دم الانسان واسترخاص أرواح البشر؟ كيف يقبل على نفسه ادخال الرعب على الناس الآمنين الذين هم من أهل ملته بل وحتى ان كانوا من غير ملته؟ كيف يصل انسان الى هذا المستوى من الوحشية وانعدام الانسانية وغياب الأخلاق؟ لست ارى لها الا تفسيراً واحداً، انها نتاج الفهم المغلوط للدين والمنظور التليسكوبي للنصوص وفكر اللون الواحد، انه فكر الغلظة وثقافة القسوة.