«غولة» على الطريق العام!
نعم.. هناك فساد، رشوة، واسطة، هدر، خنق للحريات، تعطيل للتنمية، تعصب، تطرف.. لكن، إلى جانب كل هذا ما زال فيها -أيضا- انفتاح، تطور، عدالة، حرية، فرح، وفاء، وحب الخير.. هناك شباب طائش، اتكالي، مستهتر، لا مسؤول، لكن هناك أيضا شبابا ناضجا، واعيا، متفتحا يتمتع بروح الشهامة والكرم، يمد يد العون ويغيث المحتاج.. وما زال فيها سماء زرقاء وبحر بلون الفيروز وشمس ساطعة. هذه هي الكويت جامعة الأضداد.. ولو خيروني بينها وبين بلاد العالم جميعا لما اخترت غيرها وطنا وحضنا!
قبل ثورة التكنولوجيا، وقبل ظهور الهواتف المحمولة، كنت في طريقي إلى عيادة الأسنان لعلاج سن انكسرت وأنا أمضغ «الأرز». وقتها كنت قد وضعت طفلي الأول منذ أسابيع، واضطررت إلى تركه مع أمي لضرورة الحالة، فالسن المكسورة كانت أمامي (يعني في الواجهة تماما)، وخفت ان ينظر إليّ ابني فيعتقد أن أمه «غولة». المهم.. تعطلت سيارتي في منتصف الطريق السريع، حيث لا طير يطير ولا إنس يسير، ولا سامع صوت. نزلت من سيارتي -باعتباري «فاهمة»- لأستطلع الأمر، وإذ بسيارة صغيرة تقف وينزل منها شابان: «الله بالخير».. «الله بالنور.. خير؟»، ومن تعابير وجهي فهما اني «مثل الأطرش بالزفة»، وبشهامة تبرعا للكشف عن عطل السيارة. دقائق وظهرت النتيجة: «ما في مشكلة بس «البنزين» مخلص». طبعا تمنيت لو الأرض تنشق وتبلعني لأخفي حرجي وغبائي و«سني المكسورة».
إسعافا للحالة توجه الشابان إلى محطة الوقود وعادا بقارورة بنزين، لكن عملية ضخ البنزين في السيارة لم تنجح وتعرض احدهما لحالة تقيؤ بعد أن بلع نصف الكمية وهو يحاول ان يشفط من القارورة ليضخ في الخزان. لم يكن أمامهما إلا حل واحد: «لماذا لا تأتين معنا في سيارتنا لنوصلك إلى المكان الذي تريدينه؟». عرضهما الكريم أحرجني، ضعت بين تخوفي من مرافقة شابين لا اعرفهما، وبين وقوفي وحيدة في منتصف الشارع، وبين ابني الذي ينتظر مورد رزقه، مستذكرة كل الحوادث والجرائم التي نقرأ عنها في الصحف.. لكني قلت لنفسي «أحسني النية وتوكلي على الله». نظرت إلى الشابين وقلت لهما «انا مرضع ولدي ساعتان فقط، يجب أن أصل الى العيادة، ومن هناك أستطيع الاتصال بزوجي ليعيدني».
ركبت السيارة مع الشابين وصوت يهمس لي «يا متهورة كيف تركبين السيارة مع من لا تعرفين.. يا غبية كيف لم تنتبهي لمؤشر البنزين؟». أعتقد أن الشابين كانا على يقين أنه لا يمكن إلا «لمجنونة» ان تفعل ما فعلت، وربما كان لمظهر «الغولة» علاقة بالأمر..! وصلت إلى موعدي، وعولجت سني، وخرجت من العيادة لأبحث عن هاتف أتصل منه بزوجي، وإذ بالشابين جالسين في غرفة الانتظار. نظرت إليهما بدهشة، فقالا: «لا يعقل أن نترك الطفل الرضيع ينتظر أمه.. يلا.. نحن سنوصلك إلى البيت».
وبكل هدوء رافقتهما، وأنا أكاد لا أصدق حجم العناء الذي تكبده الشابان من اجل أم بضرس مكسور لا يعرفانها. وصلت إلى المنزل وأنا عاجزة عن التعبير عن امتناني وشكري لتعبهما معي، وعاد الصوت يهمس لي.. أين في غير الكويت تجدين مثل هذه اللهفة الحنونة؟!
نعم، هذه هي الكويت التي أحب.. فيا أم الخير كل عام وأنت وطن.